التيجان في ملوك حمير/عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع

من موسوعة الأدب العربي
< التيجان في ملوك حمير
مراجعة ١٣:٤٣، ٤ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع

عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع - التيجان في ملوك حمير

عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع قال أبو محمد: حدثني محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عمرو بن عامر مزيقيا بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد - وإنما سمي مزيقيا لأنه كانت تنسج له في كل سنة ثلاث مائة وستون حلة، ثم يأذن للناس في الدخول فإذا أرادوا الخروج استلبت عنه وتمزق قطعاً - ولذلك سمي مزيقياً، وكانت الحاكة بمأرب تقيم له حلة في كل سنة نسجها ذهب أحمر، وكان له عيد من الحول إلى الحول تعدله، فإذا أراد الرجوع إلى منزله مزقت عليه.وكانت له سنة من ذي القرنين يوم هتك عرشه ومزق حلته، وكان فراغ الحاكة منها يوم عيده، ثم تمزق عليه.وإنما كان يغفل ذلك لئلا يتخذ أحد ما يلبس منها بعده.وكان اسم أبيه عامر ماء المزن لأنه كان إذا نزل بقومه جدب فتح بيوت أمواله وعالهم حتى يخصبوا ويقوم لهم مقام المطر إذا فقد وكانوا يقولون: كفانا عامر هو ماء المزن لنا وكان عامر ماء المزن ابن حارثة الغرف بن امرئ القيس الجواد بن ثعلبة الضمر بن مازن ابن الأزد.وفي ذلك يقول عمرو بن حرام جد حسان بن ثابت:

ورثنا من البهلول عمرو بن عامر. . . . . . . .وحارثة الغطريف مجداً مؤثلا

كرائم من أبناء نبت بن مالك. . . . . . . .ونبت ابن اسمعيل ما إن تحولا

وإنما كان أول نقلة عمرو بن عامر من اليمن بالأزد وتفرقهم في البلاد إنه كان باليمن سد بناه يشجب بن يعرب بن قحطان وأتمه من بعده الصعب ذو القرنين عليه السلام.وهو السد الذي ذكر الله في كتابه العزيز، وكان السد بين جبل مأرب وجبل الأبلق - وكان الأبلق متصلاً بالجبال الزرق - وإنما قيل الأبلق: لأنه في أرض سوداء فيها معادن اللجن وأرض غبراء فيها معادن العقان وأرض زرقاء فيها معادن الزبرجد والجزع - وكان يقال له الأبلق الباذخ - ومأرب الشامخ، فمأرب متصل بجبال عمان والأبلق متصل بجبال لجة وما فوق السد ستة أشهر وما تحته ستة أشهر يدركه نفع الماء وكان يأتي إلى السد سبعون نهراً كباراً سوى ما كان يأتيه من السييول من أرض حضر موت وأرض برهوت إلى باب الحبشة.فكان ما يلي مأرب عن شمال السد لبني كهلان، وما يلي الأبلق لبني حمير بن سبأ.فكان يحبس السد لما فيه من الماء سنة من الحول إلى الحول يسقون به جناتهم وزراعتهم وما حاولوه من أمرهم على قدر ما يريدون فكان كما قال الله تعالى: { لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } إلى قوله: { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا نفسهم }.وكان لعمرو بن عامر مزيقيا من الجنات والزروع مثل ما كان لجميع أهل سبأ، وكان لعمرو بن عامر من الولد أحد عشر الأكبر ثعلبة العنقاء وحارثة وأبو حارثة وعوف وعلبة ومالك - قاتل الجوع - وكف ووداعة وعمرو وقيس وعبيد وأمهم مارية ذات القرطين بنت ظالم بن معاوية بن كندة بن مريع بن مالك بن عريب بن زيد ابن كهلان.وكان لعمرو أخ أكبر منه يقال له عمران بن عامر، وكان ملكاً متوجاً قبله، وكان كاهناً لم يكن في الأرض أعلم منه، وكان بيده علم من بقايا دعاة سليمان، وكان له حظ عظيم من ذلك، وكانت العرب لا تعدل بعلم عمران بديلاً وكان يخبر قومه أن بلادهم ستخرب آخر الزمان حتى يفترق قومها في مشرق الأرض ومغربها، وكانوا يكتمون ذلك من قوله ويقولون: شيخ قد كبر وبلغ من السنين أربعمائة عام، وكان أخوه عمرو بن عامر قد بلغ ثلاثمائة عام.فلما حضر عمران الموت دعا بأخيه عمرو وقال له: يا عمرو إني ميت وهذه البلاد ستخرب ويفترق أهلها وإن لله عليها نعمتين وسخطتين: أما النعمة الأولى فهذه النعمة التي كنتم فيها، والسخطة الأولى: ينهدم هذا السد ويفيض عليكم فيهلككم ويهلك زروعكم وجناتكم وأموالكم وتفترقون في الأرض، والسخطة الثانية تغلب عليكم الحبشة.والنعمة الثانية: يبعث الله النبي محمد التهامي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة ويغلب أهل الأوثان في آخر الزمان أهل الأديان فيخرجونهم من البيت الحرام ويخربونه، فيرسل الله عليهم رجلاً من حمير يقال له شعيب بن صالح فيهلكهم ثم يخرجهم منه، فلا يكون بالدنيا إيمانا لا بأرض اليمن.واني أخبرك بما يكون لك النجاة ولقومك وذلك أن امرأة من قومك يقال لها ظريفة بنت الحبر الحجورية - وهي وارثة علمي - فلما مات عمران وولي أخوه عمرو تزوجها وتتوج عمرو بعد أخيه، وكان عمرو أعظم ملك بمأرب وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به.كانت المرأة تمشي من بيتها وعلى رأسها مكتل فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة من غير أن تمس منها شيئاً وكانت كما قال الله تعالى { بلدة طيبة ورب غفور } وإن الرجل يمشي تحت ظلال الشجر شهرين فلا تصل إليه الشمس من كثرة الجنات حتى دعوا على أنفسهم فقالوا: { ربنا باعد بين أسفارنا } فأرسل الله عليهم السيل.قال: وإن ظريفة لما تزوجها عمرو بن عامر كانت ذات يوم نائمة إذ رأت كأن آتياً آتاها وقال لها: ما تحبين يا ظريفة علم تطيب به نفسك أو مولود تقر به عينك ؟ فقالت: بل علم تطيب به نفسي فجر بيده على صدرها ومسح بظاهر كفه على بطنها فعقمت فكانت لا تلد واتسعت في العلم وأعطيت منه حظاً عظيماً.فبينما هي ذات يوم نائمة إلى جانب عمرو بن عامر غذ رأت كأن سحابة غشيت اليمن فأبرقت وأرعدت فلم تقع على شجر إلا أحرقته، فذعرت ذعراً شديداً، فقام إليها عمرو وقال لها: مالك يا ظريفة فقالت: أزف بكم الغرق وآتاكم من الأمر ما قدر وسبق فخفضها عمرو حتى سكنت وقال لها: يا ظريفة ما تقولين ؟ فقالت: وقلبها يختفق ودمعها يندفق: يا عمرو هلك النسل بالوحل.ثم إن عمرو ابن عامر لم يلبث أياماً حتى خرج إلى بعض حدائقه ومعه قينتان وله وبلغ ذلك ظريفة فخرجت تمشي تريده ومعها وصائف لها.فبينما هي تمشي إذ عرض لها ثلاث مناجد معترضات وهن منتصبات على أرجلهن وأضعاف أيديهن على أعينهن، فلما رأتهن ظريفة وضعت يدها على عينيها ونزلت إلى الأرض وقالت لوصائفها: إذا ذهبن هؤلاء المناجد فأعلمني، فلما ذهبن أخبرنها فقامت مسرعة فعارضها خليج جنات عمرو فوثبت منه سلحفاة فوقعت على التراب واستلقت على ظهرها ورامت أن تنقلب فلم تستطع فجعلت تبحث بيديها ورجليها لتنقلب فلم تقدر وعي تحثو التراب على رأسها وعلى بطنها تزرق بولها.فلما رأت ذلك ظريفة جلست والفت بيديها على عينيها وقالت لجواريها: إذا عادت إلى الماء فأعلمنني، فلما عادت السلحفاة إلى الماء أعلمنها فمضت مسرعة حتى دخلت الحديقة نصف النهار حين سكن الريح فإذا شجر الحديقة متناصلة يميناً وشمالاً من غير ريح، فمضت وعمرو في قبته، فلما رأى ذلك ظن أن غيرتها حملتها فاستحيا منها فأمر الجارتين فخرجتا وقال لها: مرجباً بك يا ظريفة هلمي إلى فراشك وإن كنت قد أتيت في ساعة لم يكن المجيء من عادتك، فقالت: هيهات هيهات يا عمرو - تفاقم الأمر ومنع السر - قال: وما ذلك لله أبوك ؟ فقالت: والنور والظلماء والأرض والسماء ليهلكن الشجر والماء، ثم الماء.ففزع عمرو وذكر قول أخيه عمران قال لها: وما ذلك ؟ قالت أخبرتني المناجد بسبع سنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد وترمي بقومك إلى أرض المستجد وتوالون الأباعد.فارتاع عمرو وقالها: انظري ما تقولين ! فقالت: إني أقول تلهفاً لما رأيت السلحفاة علت خليجاً آنفاً تغترف التراب بيديها غرفا ولا تني ببولها أن تقذفا، قال لها: هذا خطب عظيم، فقالت: إن الإنسان إنسان وباللسان الحق والبيان والدهر ذو غير وألوان والصمت خير من البيان وفي باطن الأرض كتمان وفي ظاهرها إيضاح وتبيان.فعلم عمرو أنها قد كرهت أن تخبره وعنده القينتان فقال لهما: اخرجا فخرجتا عنه، ثم قال لها: ما تقولين يا ظريفة ؟ فقالت: أرى أموراً جسيمة تأتي بأوابد عظيمة وأموراً أبيمة أشأ من الهزيمة نهاراً أو عتيمة، قال لها: ويحك وما هو لقد أشرف مكروه ؟ قالت: أجل ثم أجل قلتكن من أمرك على وجل ينجو بنو وائل ويهلك الوسائل وما لك من ناثل فكأني أسمع رنة القائل عند جولة القبائل فاحذروا ما تأتي به الدلائل فإن علمي جل عن سؤال السائل قال لها عمرو: بيني لي فإني رأيت في علمك نجاتي ؟ قالت: أنعي لك تفرق الأحباب وذهاب الخيل والركاب والماشية والاهاب والذهب والفضة والثياب من السيل الأسود المنتاب.وكان عمرو متكئاً فاستوى جالساً وقال لها: بيني لي النجاة ؟ فقالت: خطب طويل وأمر جليل والقتل خير من السيل، قال لها: صدقت فما وجه ما تذكرين.فقالت: أيت السد ولا تبعث أحداً فيكون ذلك آكد فإن رأيت جرذاً يقلب برجليه الصخر ويكثر بيديه الحفر فاعلم إنه قد نزل الأمر فعليك بالصبر ولا تجزع للدهر، قال لها: أما ترين هذا الأمر ؟ قالت: لا أدري غير إنه وعيد من الله نزل ونكال منه لم يكل، يقتل به من قتل لا يصرف عن سهل ولا جبل إلى حيث ما أراد الله من أرض وصل فليكن مغيرك يا عمرو التكل أو فلك الهبل.فانطلق عمرو إلى السد ولم يكل لغيره وكان يحرسه حتى رأى جرذاً يبحث برجليه ويقلب الصخر بيديه التي لا يقبلها أربعون رجلاً وذلك للذي أراد الله عز وجل وسبق في علمه إنه كائن فصدق ظريفة وعلم أنها صادقة فرجع إليها مغموماً فقالت له: ما وراءك ؟ فقال شعراً:

ابنة الجير والفلاح أصدقينا. . . . . . . .قد رأينا بعض الذي تعدينا

قد رأينا الذي ذكرت يقينا. . . . . . . .إنما الدنيا غرور اللاعبينا

قد رأينا الجرذ في السد يقينا. . . . . . . .فأشيري بالذي تعلمينا

قالت: يا عمرو إذا ظهر الجرذ الحفار فاستبدل لنفسك داراً من دار وجاراً من جار فعندها تنزل الأقدار، قال: ومتى يا ظريفة ؟ قالت له: ما بينك وبين سبع سنين ينزل الأمر اليقين وتحول البنين، قال لها: فكيف النجاة ؟ فقالت: هيهات يا بن ماء المزن انقطع علم ذلك من كل ذي علم ولو علم ذلك أحد لعلكته ظريفة، ولا يأتي علي يوم وليلة إلا وأنا أتوقع ذلك.قال لها: وما علاقة ذلك.قال لها: وما علاقة ذلك ؟ قالت: ادع بقدح من زجاج في مجلسك دون الرتاج وأضرم أمامه سراج فانه يمتلئ رملاً بلا مزاج.ففعل ووضع قدحاً دون رتاج مجلسه فما لبث أن امتلأ رملاً والريح لا تصل إليه.ثم قالت له: يا عمرو إذا رأيت الحصباء في شربك فاغتنم بيع أرضك واخرج إلى النخيل فإن رأيت سعفها يتناصل ويميل فارحل فقد آن الرحيل وبع ما لك بمأرب من مال، قال: يا بنية الحبر يضيق بذلك الصدر وما على هذا الأمر من صبر.قالت: يا عمرو - النجاء النجاء من أقام غرراً أساء فاعزم ولا يخدعنك المنى فإن العجز عاقبته البلاء وإن الجلوس غرر فالحذر الحذر ولله الفعل والأمر يهلك من يشاء ويذر، فاصدق نفسك ولم ينجو منه ذو ناب ولا ظفر.فكتم عمرو أمره وعزم على بيع ما كان له بمأرب من مساكن وجنات وقصور واجمع أن يرحل بولده وأخوته وقومه وفزع أن ينكر عليه ذلك فأمر بمائة من الإبل فنحرها وذبح البقر والغنم وكان كثيراً ما يصنع ذلك فأصعم ثلاثة أيام وأرسل في جميع مأرب حتى لا يتخلف عنه أحد وكان عمرو قد أمر ولده ثعلبة العنقاء - وهو أكبر أولاده، وهو جد الأنصار - قال: يا ثعلبة إذا أمرتك غداً بأمر فاعصني وأغلظ علي في القول، فإذا ضربتك بالعنزة التي بيدي فالطمني، فقال له: يا أبت لا تساعدني يدي، قال له: إن لم تفعل هلكت أنت وأخوتك وقومك، فقال له: نعم.فلما اجتمع الناس أمره الملك عمرو فأبى عليه وأغلظ له في القول فصربه بالعنزة التي كانت في يده فلطمه ثعلبة ابنه، فقال عمرو: في يوم مجدي يلطم خدي فيه ولدي وأذلاه، فوثب الناس إلى ابنه ليقتلوه إعظاماً للملك، فقال لهم عمرو: لا تقتلوه فإن الرحمة سبقت له في قلبي من السخط، ولكني سأبلغ منه استطال ثعلبة وأطغاه علي المال ولكني سأعدمه وأبيع جميع مالي بمأرب تحت السد ونذر لله نذراً ليفعلن حتى يفقر ثعلبة ويدفع الأموال إلى أخوته وينتقل من مأرب إلى غيرها ويخلف ثعلبة.فقال الناس من أهل الشرف والقوة: اغتنموا من عمرو بن عامر غضبه وابتاعوا منه جميع ما كان له بمأرب فإن هو تمادى على غضبه فقد أفدتم أموالاً عظيمة وإن هو رجع رددتم عليه أمواله وكانت لكم عنده يد فاشتروا منه جميع ماله.فلما قبض ثمن أمواله دعا بمالك بن النعمان - وهو سيد الأزد بعده - فأخبره الخبر ودعا بظريفة فقال لها: ما عندك يا ظريفة أين تريدين لنا السير ؟ فقالت: يا مالك بن النعمان يا بن زيد بن كهلان - أهل الفضل والبيان - أرى أن تغدو من الغد ولا تقيم ساعة لو عد أمر يسير كالرعد فباعت عند ذلك الأزد أموالها وقالوا: لا نتخلف عن ملكنا.فسار عمرو في الأزد - وكانوا يعمرون أعماراً طوالاً - حتى إنه ليكون مع الرجل من ولده وولد ولده عسكر جرار، فكان كل سيد على من يليه، وكان مع عمرو ثلاثة وعشرون رهطاً من أولاده وأولاد أولاده وسائر ذلك، فلما اجتمعوا للسير دعا بظريفة فقال لها:يا ظريفة: أين تريدين لنا السير ؟ فقالت: فيكم الأمير وعليكم التدبير.يا أهل المجد من سبأ الممزقة سيروا لنا فلا بد لكم من فرقة يتقدمها اليسار وتعفو الآثار فتنأى الديار وتطول فيها الأسفار وتنقضي منها الأوطار عجلوا ففي كل بلد لكم خبر كلما لتقيم نفراً كان لكم الظفر تتوارثون الملك بعد الملك وتلبسون التاج بغير شك وبدأ الأمر من عك.فسارت الأزد مع عمرو بن عامر وجعلوا على مقدمتهم مالك بن النعمان بن الجلهم بن عدي بن عمرو بن مازن الأزدي، فنما هم يسيرون إذ قال ظريفة: يا معشر غسان أنذرتكم من هذا المكان أنتم أهل العز والسلطان وفوراس الطعان وسيوف بني قحطان، قالوا: وما ذلك يا ظريفة ؟ قالت: والسرابيل المحترقة التي يمشي فيها سملقة بالغدرة المعبقة والسيوف المطبقة قالوا: وما ذلك يا ظريفة فأمرينا بالسرعة إذا شئت والكف متى شئت ؟ والأمر إليك، فقالت: إني أرى منكم إيضاحاً ووجوهاً صباحاً تسبق الرماحا وتكثر الصياحا، قالوا: فأين ذلك يا ظريفة ؟ فقالت: سيروا إلى عك بالسيوف، فلكم منهم صروف وضراب وحتوف.فزعموا أن ظريفة أول من سماهم غسان، وقيل أن غسان شرب مازن من السد وقال حسان بن ثابت:

أما سألت فانا معشر نجب. . . . . . . .الأسد نسبنا والماء غسان

وقد اختلف الناس في غسان فقالوا: هو ماء لبني زبيد نزل عليه بنو مازن فسموا به، وقال قوم: هو ما بين الجحفة والمشلل نهر يسمى غسان فنزلوا عليه فغلب عليهم اسمه، وقال أكثر العلماء: إنه شربهم من السد - وعلى هذا عامة العلماء - وغسان هم: بنو مازن بن الأزد خاصة وهذا وفق الأحاديث لأنه شرب لبني مازن من سد سبأ.فلما انتهوا إلى عك أرسل الملك عمرو بن عامر إلى سملقة بن حباب العكي يسأله في النزول في أرضهم قليلاً ثم يرتحلون عنهم إلى أرض غيرها، وإن سملقة سيدعك دعا قومه فقال لهم: ما ترون أن الملك عمراً قد أرسل إلي وقال: إنا قدمنا بلادكم وأردنا المقام يسيراً مقام الزيارة فواسونا قليلاً حتى نرحل عنكم، فما ترون في بني عمكم وقد سألوكم حسن الجوار يسيراً وقد كرهوا أن ينزلوا أرضكم بغير رضا منكم ولا إذن ؟ فقالت عك: ذلك إليك يا سملقة غير إنه ما نزل قط قوم على قوم وعرفوا وجوه أرضهم فوطوءها إلا كانت لهم الغلبة عليهم.وقد قال يعرب بن قحطان: ويل للمنزول عليه من النازل المنزول عليه يلين الجوار والنازل مع ذلك متطول.فقال سملقة: ليس هذا من فعل عمرو بن عامر لأنه ملك، سيروا إليه بأسركم فإنه أقرب إليكم رحماً وأعظم عندكم منزلة من أن يفعل بكم هذا.قالوا له: امض أنت وافعل ما أحببت.فسار إليه سملقة فقال له:أيها الملك اختر أي جانب من الوادي شئت ان شئت شرقيه وإن شئت غربيه فانزله.فقال له: جذع بن سنان - وكان صعلوكاً في غسان وفاتكها في ذلك الزمان -: أيها الملك الغربي أحسن لأنه مجمع السيول ومستقر الماء.فقال له الملك: الغربي أحسن يا سملقة.فنزل عمرو في غربي الوادي بمن معه وبعث ابنه حارثة رائداً مع رواد في خيل يرتادون له منزلاً، وبعث ابنه الحارث في جهة أخرى بخيل يرتادون له منزلاً، ثم نحر الملك عمرو وأمر بالطعام ونادى إلى عك فأجابوه إلى طعامه فأحسن إليهم وجملهم وأعطاهم - وإن عمراً بن عامر اعتل فمات قبل أن يرجع إليه ابناه - وستخلف ابنه ثعلبة العنقاء في قومه وأقام ثعلبة ينتظر أخويه المرتادين.قال: ونزل عند بني حارثة بن عمرو بن عامر وهم رهط جذع بن سنان رجال من الجن وفيهم قاشر الجني، فلما جلسوا حلبوا لهم اللبن وشربوا، فقال لهم قاشر الجني: يا معشر غسان ما بال لبنكم ليس كلبن بني عمكم عك، لبنكم مالح مصرح رقيق ولبن بني عمكم غليظ دسم ؟ قالوا له: لا ندري لم ذلك ! قال لهم قاشر الجني: نحن أعلم بذلك منكم، إنما أتيتم في أموالكم ومواشيكم من قبل الأرض وذلك أن بني عمكم أنزلوكم غربي الوادي وأسفل النهر ومستقر السيول فمواشيهم تشرب صفو الماء ثم تسرح في غربي الوادي فتستقبل الريح بوجوهها وتستدبر الشمس بظهورها فتسخن متونها وتنزل ضروعها وإذا طلعت الشمس طلعت مكانها فأصابت الكلأ قد اطعم نواره وذاب جليده وشرب نداه أصله فاستد نياته وزكى طعمه.قال: ونزلتم يا معشر غسان في غربي الوادي وأسفله فأنعامكم تشرب كدر الماء وتسرح شرقي الوادي وتستقبل الشمس بأبصارها فتكل عن البذر وتضعف أبدانها وتستدير الريح بظهورها فتبرد متونها وتنكمش ضروعها، وإذا طلعت الشمس فلا تبلغكم إلا بعد ارتفاعها، فكلاكم ظليل أبداً لا يبرز زهره ولا يشرب نداه أصله - فمن ثم لبنكم رقيق مالح فكلموا بني عمكم يعاقبوكم من أرضهم قبل أن تهلك أنعامكم - قال: فعند ذلك بعثت غسان إلى عك اعقبونا من المنزل ولا تستأثروا علينا هذه الأثرة كلها، فقالت علك: يا قومنا الأرض أرضنا، وإنما أنتم ضر علينا ولولا السيد الكريم والملك الرحيم عمرو بن عامر ما أنزلنا كم ولو كنتم قد أخذتم الشرقي ما منعناكم فقد واسيناكم أفضل المواساة فلا تبغوا علينا فانه لا يسعكم البغي، فقال ثعلبة العنقاء: صدق بنو عمكم فكفوا عنهم فقد أحسنوا إليكم في مواساتكم فاخترتم منزلكم الذي أنتم فيه فلا تجعلوا لهم ذنباً لم يذنبوه غليكم ولا ذنب لهم ولا تبغوا عليهم وهذا منكم بغي.فقام جذع بن سنان - وهو أعور وأصم - فقال: صدقت أيها الملك.ثم أتى إلى ابن عم له يقال له زوبعة فقال له: إن الملك أراد أن يتم لعلك عهدهم - وهو حدث غر لا يعرف الشر من الخير - ولكن يا زوبعة لا بد لك أن تقتل لي سملقة بن حباب - وكان زوبعة صاحباً لسملقة - فقال له زوبعة: ويحك يا جذع إنه أخي وصاحبي فكيف أقتله ؟ قال له جذع: قد أخبرتك، فأتى زوبعة الغساني إلى سملقة العكي فقال له: يا بن العم عقب ابن عمك في المنزل لتعرف العرب إكرامه فانه يكره الرحم وفساد ما بيننا وبينك واعلم أن مقامنا في بلادكم قليل حتى نرتاد منزلاً ؟ فقال له سملقة: إني أحب مسرتك وانك لتطلب غير النصف وانك لتعلم ما يريد أصحابك وما قال لهم قاشر الجني وأصحابه، قال لهم: كذا وكذا ولم يرد بنا وبكم الخير وأنا أعلم ما يؤول إليه هذا الأمر - وكان سملقة رجلاً عائقاً زاجراً يقول الشعر - فقال لسملقة: ما لنا من حاجة وكان ذلك اليوم نزل سملقة قوماً من زبيد وكان كريم عك فباتوا عنده.فبينما سملقة يكلم زوبعة إذ قال له سملقة: يا زوبعة إن الذي أتيت فيه مخنوق أو مذبوح، قال: وكيف ذلك يا سملقة ؟ قال له انك لما كلمتني وامرأة من الحي قد مرت بي وفي يدها ديك فعلمت بزجري ما قلت لك.ثم إنه بان معه تلك الليلة وتركه حتى تحكمت الخمر في رأسه فقتله وأتى إلى الزبيديين فقال لهم: فروا فإن سملقة قد مات، وأخشى عليكم من عك، ففر الزبيديون ورجع زوبعة إلى جذع فأخبره.فعند ذلك لما أصبح ووجدت عك سملقة مقتولاً ثارت بالسلاح إلى غسان، فقال لهم جذع: مالكم أنتم أخواننا ؟ قالوا له: يا جذع قتل زوبعة سيدنا سملقة.قال لهم: كأنه للم يبت مع سملقة في القبة إلا زوبعة ؟ قالوا له: بات معه نفر من زبيد، قال لهم: لا تعلمون من قتله، وإن زوبعة لن تروه بعد هذا وما كان عن أمر منا وهذه أموالنا لكم تحكمون فيها وأنه لولا وع ثعلبة بن عمرو لغذا عليكم - فنظر بعضهم إلى بعض وأتمروا بجذع - فقالوا: نقتل أعور أصم دنيا في قومه.ثم قالت عك: قد اعتذر إليكم بنو عمكم وقد علموا ما كان منكم من سوء فعل زبيد وصاحبهم، ولكن كفوا حتى يدفعوا إليكم زوبعة تقتلوه بسملقة.قال لهم جذع: ذلك لكم، فرجع جذع ومضى إلى ثعلبة بن عمرو فلم يخبره إنه أمر زوبعة بقتل سملقة فقال له ثعلبة: ادفع إليهم زوبعة يقتلوه بسملقة - فإنه لا عذر لكم - قال له جذع: لا تعجل إن كان هو من صاحبنا زوبعة - فهو من الزبيديين - ثم إن جذع بن سنان أتى إلى غسان تخير منهم مائة رجل ثم قال لعك: تخيروا منكم مائة رجل يحكمون الأمر بيننا وبينكم فتواعدوا للعهد على مكان بعيد.ورجع جذع واختار مائة رجل من قومه وأمر أن ينطلقوا ليلاً إلى المكان الذي تواعدوا فيه وأمرهم أن يدفنوا فيه سلاحهم.فلما أصبحوا قال لهم جذع: يا معشر غسان أصحابكم لن يغدوا حتى يروكم فاغدوا في رفيع الثياب، ففعلوا وتعرضوا دون سلاح.فلما رأوا ذلك عك اطمأنوا وخرج منهم مائة رجل من أشرافهم بمثل ذلك الزي - وقد كان جذع قال لأصحابه احبسوهم بالأحاديث واضربوا لهم الأمثال حتى يحمي الهجير وتعلو الشمس ويدخل جميع عك فإذا لوحت لكم بثوبي فعليكم بالسلاح - ففعلوا ذلك وقلوهم حتى أبادوا المائة رجل.ونظر رجل من عك - يقال له يزيد بن زياد - إلى قتلهم فنادى: يا آل عك غدرتم في أصحابكم.فأقبلت إليه عك على الصعب والذلول وتداعت غسان فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى انهزمت غسان ووقعت عك في الغنائم.فلما ملئوا أيديهم وانصرفوا تبعتهم غسان فقتلوهم حتى أمعنوا هاربين في الأرض وخلوا منازلهم.فنادى جذع في أصحابه: ارفعوا السيف فلا حاجة لنا فيمن بقي من عك ولا تقربوا غنائمهم وعيالاتهم وحال بينهم وبين ذلك ثعلبة بن عمرو وقال: إياكم وبنات عمكم.فقال المقنع العكي: حين انهزمت غسان:

غسان غسان وعك عك. . . . . . . .والأشعريون رجال ضنك

والقوس فيها وتر عنك. . . . . . . .والنبل كالنيران صفر سك

والمشرفيات لنا والد لك. . . . . . . .والخرد العين لنا والمسك

سيعلمون أينا الأرك

فلما كرت غسان عليهم وهزمتهم، أنشأ جذع بن سنان يقول:

نحن بنو مازن فينا الملك. . . . . . . .سيدفع الأبطال عنا الشك

سيعلمون من هو الأرك. . . . . . . .إذا التقينا والمكان ضنك

غسان غسان وعك عك. . . . . . . .ليس لكم من البلا مفك

قال فعظم على ثعلبة بن عمرو غدر عك ولم يجد سبيلاً.ومالت قبائل غسان مع جذع، فقال ثعلبة: لا خير لنا في المقام معك بعد غدرنا بهم فقال جذع: أوطنوا أرض عك يا آل غسان.فأرسلت عك إلى الملك ثعلبة وقالت له: أعطنا عهد الملك، فتشاءم ثعلبة بجذع، وأتى إلى ثعلبة أخوته المرتادون فأخبروه عن أرض همدان وخصب أرضهم ومراعيهم.فدعا بظريفة فقال لها: ما ترين ؟ فقد جاء بنوك بخير وبخصب أرض همدان وقد أسأنا جوار عك وكرهت المقام فيهم وأردت المسير إلى همدان فما ترين ؟ قالت: أما عك أهل المكر فقد أرسلتم عليهم الأمر نقمة من نقم الدهر وأما أرض همدان فقد أعلمتكم بها منذ زمان.ثم قالت: والشهاب والفلك والنظرة والوعك ليتخلفن منكم حيان في عك ويملكنهم أيما ملك وليد ألن عليهم بالدك.فساروا إلى همدان وتخلف منهم حيان عنس وبولان فانتسبوا في عك إلى الآن.فقيل عنس وبولان ابنا أصحاب بن عك وإنما عك وبولان أصحاب الحارث بن مازن بن الأزد، فبينما هم في مسيرهم إذ قالت ظريفة لغلام لها - يقال له سنان -: يا سنان بشر الأزد غسان من ولد الأغر كهلان بالنصر على همدان والملكإلى زمان.فلما انتهوا إلى بلاد همدان لمهم الملك ثعلبة العنقاء ففزعوا أن يكون منهم إليهم ما كان منهم إلى عك بن عدنان بعد المواساة والإحسان قاموا عليهم فناصبوهم إلى القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً بموضع يقال له ( البطحاء ) فانهزمت همدان ورحلوا عن بلادهم وأموالهم.فقال ثعلبة بن عمرو: لا تمسوا شيئاً من أموالهم فانظروا إلى موضع من بلادهم ترضونه فانزلوه إلى أن تروا مكاناً وترحلون عنهم فانا لا نريد الإقامة في بلادهم وهم كارهون، وأحسنوا جوار من رجع منهم.ثم بعث إلى همدان: هلموا إلى أموالكم وبلادكم فإنا لا حاجة لنا فيهم، فرجعوا فقالوا لهم: يا قومنا وقعت بيننا وبينكم قتلى كانت حياتهم خيراً لنا ولكم من موتهم وليس بد من المقدور فاطمأنت همدان ورجعت إلى منازلها وأصلحت مع غسان.قال ثعلبة لهمدان: يا قومنا نريد أن نرحل عنكم، فقالت همدان: أيها الملك سخطنا قدومك وأساءتنا رحلتك، فما أحسن الفرقة قبل المعرفة، وأحسن الاجتماع بعد الفرقة.ثم إن ثعلبة وغسان رحلوا وتخلف في بلاد همدان بنو وادعة ابن عمرو فأحسنت همدان جوارهم وملكوهم على أنفسهم وأسندوا إليهم أمورهم حتى دعاهم ذلك إلى أن انتسبوا إليهم فقيل وادعة بن عمرو بن جشم بن حاشد بن همدان.فلما اجمعوا للمسير دعا ثعلبة ظريفة فقال لها: يا ابنة الخير أين ترين وجه السير ؟ فقالت: والبرق والبيان والذهب والعقيان لتحار بن الفرسان ولتلقون خيلاً ذات سنان ذوي أسل وأبدان وصفائح الإيمان.فقدموا إلى أهل بنجران فعليكم بنجران فلما آتوها لقيهم مذحج سعد العشيرة فقاتلوهم حتى حال بينهم الليل.فلما هدأ الناس نادت ظريفة في جوف الليل: يا بني عمرو بن عامر يا عظام المنابر قد جرى لكم خير طائر فإذا أضاء صبح وأصبح واعتلج الليل وبرح، فوبى لمن أفلح ونظر في أمره والصلح.فلما أصبح غدوا إلى مذحج فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزم قبائل مذحج ووقعت بينهم قتلى، ثم تصالحت غسان مع مذحج وانتسبت في مذحج من غسان بنو زيد بن الهبور وصاروا معهم أخوة فيقال إلى اليوم بنو زيد بن الحارث بن كعب بن عبيد بن خالد بن مالك.ثم أجمع ثعلبة على المسير فقال لظريفة: أين ترين لبنيك المسير ؟ فقالت:

نحو السراة عجلوا الرحيلا. . . . . . . .لا تجعلوا من دونها بديلا

أصبح وجه الأمر مستحيلا

ثم قالت: يا ثعلبة من هذا المكان أحكم بالبيان امضوا الآن مسرعين ويتخلف منكم حيان.فمن كان منكم ذا هم بعيد ومراد جديد وحمل شديد فليأت كابر وليد وقصر عمان المشيد فأنت هذه نصر الأزد.فسار من سار إلى عمان من الأزد وكان الذين تحملوا إلى عمان بنو نصر ابن الأزد هم أهل بيت عمرو بن الخليد بن البكير وسار بهم رئيسهم خيوان بن سالم بن ناهدة بن عمرو بن نصر بن الأزد فنزلوا عمان والبحرين ثم قالت: يا ثعلبة من كان منكم ذا هم أمدن وخيل أدكن فليلحق أرض شنء - فكانت هذه صفات أزد شنوءة - فلحق بهم عون بن عدي بن حارثة بن عمرو وهؤلاء أزد شنوءة.ثم قالت: يا ثعلبة من كان منكم ذا حاجة وأسر وأناة وصبر على أزمات الدهر فلينزل الأراك من بطن مر - فأنت هذه صفة خزاعة - فسارت خزاعة حتى نزلوا ببطن مر.ثم قالت: من كان منكم ذا رمح نجل وسيف نصل ورأي جزل وقول فصل - يريد صدق القول - والراسيات في الوحل المطعمات في المحل يعلم بعد الجهل وينصر خاتم الرسل فلينزل بيثرب ذات النخل - وهي المدينة - فنزلت بها قبيلتان: الأوس والخزرج - أهل الوجوه الوضية والأنفس الرضية والمناقب السنية فليخرجوا قبل نزول المنية وحلول القضية ولينزلوا بيثرب بجوار هزان بن حمير ذات التيجان أفضل الأخوان والجيران - فخرج حارثة وأخوته بنو ثعلبة العنقاء.قالت له: يا ثعلبة تفرق قومك ثم تلحق بنيك فمن كان منكم يريد بلداً عالياً وعيشاً راضياً وخيلاً صوافنا وملكاً دانياً فليلحق بالمشرق من أرض بابل بين القبائل في أطيب المنازل وأحسن المناهل وأعلى المعاقل - فهذه صفة بني همدان بن الأزد - فسار نحو العراق إلى بابل.ثم قالت: ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وديباجاً وحريراً وملكاً كبيراً وتأميراً فليأت بصري وحفيراً ودمشقاً وغويراً، ومن كان وجهه منيراً وفرسه حميراً وطعمه قديراً وولده كثيراً فليمض إلى دمشق - فكانت هذه صفة علبة بن عمرو بن عامر - وعلبة هو فنة، فسار جفنة وبنوه وكان لعلبة ولد كثير - وهو أعز غسان وأعز ولد عمرو بن عامر - وتخلف بمأرب مالك بن النعمان بن عمرو ابن مازن بن الأزد بعد خروج عمرو بن عامر على متخلف من وشل الأزد.ونزل السراة من لأزد بنو هبير بن الهبور بن الأزد، والبعض من ولد الهبور بن دهمان وأمر وآهلة ابنا عبد الله بن نصر بن كعب بن الأزد - وهم أزد شنوءة - فهذه القبائل الذين سكنوا السراة بظهر الجبل الذي يقال له ( الحجاز ) أعلى نجد شديد البرد والحجاز ما حجز بين نجد وتهامة.ففي أعلى نجد الحر في الشتاء والصيف وفي أسفله غور في الشتاء بارد، ونزل سهب ومنهب وراسب بنو مالك بن نصر بن الأزد - وهم برق دهمان بن دهوان بن كعب بن نصر بن الأزد وهم اولاد عامر الجادر أول من جعل للبيت جداراً - وهو الجادر بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد - وهم أهل بيت المهلب بن أبي صفرة - وهو ظالم بن سراق ثم قالت ظريفة لحارثة ولولده: خذوا الجمل الأزور فضرجوه بالدم الأحمر وأرسلوه يمشي على قدر حتى ينزل بكم البلد الأغر بلد النبي الأزهر صلى الله عليه وآله وسلم.فنزلوا هؤلاء القبائل الذين نزلوا السراة الذي يقال له الحجاز - لأنه حجز بين نجد وتهامة - وهو السراة - وإنما سمي السراة لاستوائه كاستواء سراة الفرس - وأقام بالسراة من غسان من ولد عمرو بن عامر وولد عمران بن عامر.ثم سار ثعلبة بن عمرو في أصحابه ووجوه قومه، حتى إذا كان ببعض الطريق قالت لهم ظريفة: وحق ما نزل من علمي بالبيان وما نطق به اللسان ما أعلم مني إلا الرب الأعظم رب جميع الأمم إني لا أرى علماً يكتم، قالوا: ما ذاك يا ظريفة ؟ قالت: خذوا البعير الشدقم فانحروه وخصبوه بالدم حتى تأتوا أرض جرهم ولا تبغ بالغلبة فتندم وكف يسلموا وتسلم جوار بيت الله الحرام بيت بناه النبي الأكرم خليل الولي المنعم بيت النبي الأعظم يقتل من كفر وأجرم.قال: فأخذوا الجمل فنحروه ثم مضوا حتى انتهوا إلى مكة فأصابوا بها جرهم وبني إسماعيل.فقال ثعلبة لجرهم: يا معشر جرهم أنتم أهل العز ولكم البأس والمجد ولكم على الناس حق بولايتكم هذا البيت ولسنا نحب أن يكون بينا وبينكم حرب فانا ما نصب لنا أحد من الناس حرباً إلا نصرنا عليه فخلوا لنا السهل والوطاء حتى تشحم وتلحم أنعامنا ونمضي عنكم ولا يكون بيننا وبينكم حرب فإنكم لا تدرون لمن تكون الغلبة ألكم أن عليكم.فغضبت جرهم وقالت: ما كنا نرى أن يطمع فينا أحد بهذا أو يرجوه.ثم تهيئوا للقتال هم وبنو إسماعيل وكانت جرهم وبنو إسماعيل قليلاً - فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.وأقام ثعلبة بمكة في بطحائها.فذاق شدة العيش هو وأصحابه، ثم شخصوا عنها وبقي بمكة من غسان أبو حارثة بن عمرو بن عامر فولي أمرها فأخذه الرعاف ومات، فكان كل من وليها منهم لا يقيم إلا سبعة أيام ثم يموت من الرعاف.ثم عم الرعاف عليهم فكانوا لا يتداركون، فهربوا ولحقوا ثعلبة.وإن ثعلبة انتهى إلى الجحفة.فلما بلغ المشلل قالت ظريفة: يا بني عمرو بن عامر أوصيكم - فقد حان موتي - ولكل أمر نبأ ولكل نبأ يولد ارتضاء، ثم قالت: انزلوا وأقيموا فاني ميتة هذه الليلة وقد رأيت أن علمي يخلفني فيه مولودان في هذه الليلة فجعلهما الله آية للأولين والآخرين فهو مولود من غسان - ويقال له مسعود بن مازن بن ذؤيب بن عدي - ثم قالت: والاسم والرياء والعلم والإباء والنور والضياء لقد ولد في تميم آخر من بني العم ليس له مفصل ولا عظم يخرج ممسوحاً ثم تموت أمه لسبع ليال ينبئ بالزيادة والنقصان إلى فراغ الخلق والزمان واقسم بالنور والفلق ما له رأس ولا عنق فكان يكبر كل شيء حتى صار كالرجل من أهل زمانه، وماتت أمه لسبعة أيام من مولده فأتوا به إلى ظريفة ففتحت فمه فنفثت فيه وقالت: لا تسقوه لبن امرأة وأغذوه فإن هذا يكفيه إلى بلوغه ثم قالت: أنت خليفتي من بعدي، ثم قالت: اقسم بالله يمين الحق ليأتين مثل هذا شق يعلم ما جل وما دق به يد واحدة ورجل واحدة وآية الله عليه شاهدة يعلم ما خفي وما ظهر يبني بالحق عند تصديق الخبر فأتوها به فتفلت في فمه وقالت له: أنت خليفتي من بعدي، ثم قالت: يا ثعلبة إذا جاوزت الحجر والمقام فانزلوا على الأعلام من أرض الشام، فإذا آتاك الملك الأعجم في الجحفل العرمرم فقوموا عند انصر أم الليل الأدهم فالتمسوا امرأة في جيبها إرقم فقلدوها الحرب الأصم، ثم سر أنت في الجيش اللهام إلى البلد الحرام.ثم قالت:

إن ابنة الخير لها أعجوبة. . . . . . . .وميتة تقضي لها مكتوبة

يؤدي بها في ليلة العروبة

فماتت ليلة الجمعة في عقبة الجحفة وقبرها هناك مشهور، وإن عمرو ابن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر نزل مكة فاحتقر فيها بئراً وسماها غسان وخزاعة من بني عمران الكاهن ولما تخزعت خزاعة قال فيهم عمرو ابن أنيف الغساني:

ولما هبطنا بطن مر تخزعت. . . . . . . .خزاعة منا في بطون كراكر

حمت كل واد من تهامة واحتمت. . . . . . . .بيض القنا والمرهفات البواتر

ولما نزلت أزد شنوءة السراة وجدوا بها امرأة من قوم عاد بن قحطان فقالت لهم: إني بقية من قوم عاد أنا أعلم بالبلاد منكم فاحملوني على بعير وسيروا بي أخبركم عن الأرضين.فحملوها على بعير، فلم يستقل بها فقالوا لها: ما نجد بعيراً يحملك ؟ فقالت: هل من ناقة هبراء فحملوها عليها فسارت بهم حتى أتت أرضاً تسمى ظطرب فقالت: هذه طرب حجرها ضر وجبلها وعر يلقى الراعي بها شر.ثم خرجت بهم حتى أتت كراء.فقالت: هذا كراء مرملة قاتلة للنساء، ثم سارت إلى بيشة فقالت: منزلة خربة آمنة مانعة.فنزلت الأزد بهذه المنازل كلها.فقال لها رجل يومئذ - أي القسي خير - قال: أما السدرة فإنها مذرة هذرة ولكن عليك بالتبع فأنه أصلب عند تقارب النزع وإياك والشريان فإنها قسي الصبيان.ثم ساروا عنها وتركوها بالوادي، فقامت أزد شنوءة بالسراة وسارت منهم قبائل إلى عمان - فأول من خرج بهم مالك بن فهم - وكان سبب خروجه إنه كان له جارة وكان لجارته كلبة وكان له أخ له أولاد كثيرة، فرمى ابن أخيه كلبة جارته فقتلها، وكان بنو أخيه أكثر من بنيه، فلم يستطع أن يفعل في بني أخيه شيئاً فغضب وقال: والله لا أقيم ببلد يفعل هذا فيه بضيفي، فسار حتى نزل عمان فسمي الموضع الذي رحل إليه نجد الكلبة إلى اليوم.فلما ورد مالك بن فهم عمان تزوج بها امرأة من بني عبد القيس فولدت له غلماناً كثيرة وكان أصغرهم سليمة وأنه أناخ إبله ذات ليلة وخشي عليها الطرد فعقلها ومعه سليمة فباتا فيها.فلما كان في الليل قام يفتقد عقلها فرآه سليمة وهو يكب عليها ويرفع رأسه فظن إنه لص فنزع له سهماً فرماه فقطع نساه فقتله ثم لحق بعمان ثم أن الأزد ضاقت بهم أرض السراة فخرج من كل قبيلة منهم ناس، فخرج بنو رابعة بن عمران وبنو حارثة بن عمرو وبنو غالب بن دهران، فخرجوا ونزلوا بالشعب من أرض عمان فقال في ذلك شاعر من غسان:

كونوا كعمران إذ سبه محلته. . . . . . . .فقال حبس وضيف بات في رصد

شد المطي على الانساع فانشمرت. . . . . . . .تطوى الصحاصح حتى منتهى الرصد

وان ثعلبة العنقاء سار حتى قدم الشام - وكان أكثر من مضى إلى الشام بنو جفنة بن عمرو بن عامر - فلما نزلوا بالشام عورض ثعلبة العنقاء وكان جميلاً فقتلته الجن فاستحلف ابنه حارثة وهو ابن الأوس والخزرج وأمره أن يشاور في أمره جذع بن سنان ولا يعصيه.فكان جذع ذا رأي مبين على ما كان من عوره وصممه - وكان شجاعاً لا يملأ قلبه شيء - ومات ثعلبة العنقاء وهو ابن مائة سنة.ومضى القوم حتى بلغوا الشام، وبالشام سليح وهو قبيل من قضاعة، فأصابوا قيصرة قد تغلب على الشام وذلك بالفترة التي كانت باليمن بعد انقضاء التبابعة، وذلك بعد موت قيصر ماهان عامل تبع شمر يرعش، فولي بعده ابنه دقيوس بن ماهان فقالت غسان لسليح: ارعونا بلدكم، قالوا لهم: ليس لنا من الأمر شيء وذلك إلى الملك قيصر، فقالت لهم غسان: أنتم شفعاؤنا إليه فكلموه في غسان وأخذوا لهم منه عهد على عهد عيسى وأذن لهم بالنزول بالشام وأقاموا مع سليح وجاوروهم بأحسن جوار، وهند غسان كتاب من عند قيصر بالعهد، وخرج عامل لقيصر يجبي من تحت يده من الروم وغيرهم فأتى غسان يجيبهم فعظم ذلك عليهم لأنهم كانوا لا يعرفون الجباية ولم تكن التبابعة تفعل ذلك ولا هي من سنتهم وما كانوا يدخلون بيوت أموالهم إلا ما جبوه بأسيافهم.فلما آتاهم في الجباية عظم عليهم ذلك وثقل فقالوا له إن كتاب قيصر بالعهد عندنا وإنما جاورنا لوجه الراحة ! قال لهم: ما أدري ما تقولون ولكنكم أدوا ما عليكم وإلا فلكم عندنا السيف والسيئ، ثم قال لهم: لا يبقى منكم إنسان إلا أعطاني ديناراً فاصطفوا صفاً واحداً فإذا مررت برجل ناولني ديناراً.ففعلا وجعل لا يمر برجل إلا أعطاه ديناراً حتى أتى على الصفوف والملك حارثة بن ثعلبة العنقاء قائم بمعزل عنهم فقال لهم: ما بال هذا لا يعطيني ! قالوا له: هات ديناراً، فقال له حارثة: أنا راعي قومي والملك أبصر لنفسه يحمل عنهم الضيم ولا يؤدي قومه إلى ما يكرهون - وكان اسم الجابي وسيطاً - فمر على جذع بن سنان وهو واقف في طرف الناس وفي يده سيف خلق الجفن وقد قعد به الدهر - فقال له جذع: خذ سيفي حتى أعطيك ديناراً فكاكه، فانتهزه الرومي وقال: أدخله في حرامك.فلم يسمع ما قاله، ولكنه علم إنه لم يقل خيراً له، فقال لمن حوله: ما قال ؟ قالوا له: لم يقل شيئاً وكرهوا أن يعلموه لشدة نفسه، فقال له ابن أخت له قال: كذا وكذا، فسل جذع سيفه فضرب به رأس الرومي فرماه، ثم قال: خلفت الراحة والدعة في سد سبأ، ثم أحمل ضيماً لطلب الراحة والدعة، فقال رجل من سليح للجابي: خذ من جذع بن سنان ما أعطاك ؟ قال: فذهبت مثلاً، وخرج كاتب لقيصر فأعلمه الذي كان فبعث إليهم قيصر مائة رجل ليسوقوا غسان فيقتلوا منهم من شاءوا فلقوهم غسان بوادي الكسوة ( تسمى بذلك للكسوة التي أخذت غسان من الروم فيه ) - فعمدت غسان إلى المائة الرجل فقتلوهم وأخذوا كسوتهم وخيلهم وأتى الخبر إلى قيصر فبعث إلى غسان الجاثليق وقال له: انظر لي خبر القوم وما هم عليه فأتى الجاثليق إلى غسان فوجدهم على عهد قيصر وأخرجوا له كتاب قيصر فرجع إليه فأعلمه بذلك وقال الجاثليق لقيصر: أيها الملك ارفع عن القوم الجور واعلم أن لهم منعة فاكفف عنهم جندك وأوف لهم شرطك فبعث إليهم أن ابعثوا إلي بمائة رجل من أشرافكم وخياركم حتى أعهد بيني وبينهم عهداً واعقد لهم عقداً - وإن الأعاجم سريعة قلوبهم إلى الغدر عند الغلبة - فلما آتاهم رسول قيصر قال حارثة: ما تقول يا جذع ؟ قال له جذع: كلا يا حارثة ليس الأمر على ما قال قيصر ولكن أرسل معي تسعة وتسعين عداً وأنا تمام المائة، فقال له حارثة: الرأي رأيك، فسار إليه.فلما أتى جذع إلى قيصر قال: من أنت ؟ قال: جذع بن سنان، قال قيصر: ومن هؤلاء الذين معك سمهم ؟ قال له جذع: هؤلاء تسعة وتسعون عبداً ليس فيهم حر غيري، وأما على أن يأتيك خيارنا ووجوهنا فتفعل بهم بأمرك فلا فافعل خيراً إن أردنه وإن كان شراً قتلت تسعة وتسعين عبداً وقتلتني شيخاً أعور أصم.فلما رأى قيصر ذلك وأنه لم ينل حاجته شاور أصحابه وقال لهم: ما ترون ؟ فقالوا له إذا لم تنل حاجتك فأعط هذا الكلب الأصم حاجته، فقال له قيصر: ما حاجتك ؟ فقال له جذع: إن في نفسك منا شيئاً لا بد لك منه ومقامنا معك غرور وأنت ملك تقدر أن تقول فتفعل، وإذا قدر الأعجمي فعل ونحن العرب نقدر ونترك لطفاً ورأفة.فقال قيصر: أسمعتم ما لقيني به هذا الكلب الأعمى ! قالوا له رجاله: أتذر الحب العالم لمن يريد أن يذبحه قاتل فقال له جذع: اكتب لي كتاباً بالصلح بيني وبينك وأعطنا فيه ذمة إبراهيم وإسحاق وتفي بالكتاب الأول الذي قد كنت كتبت لنا ولا تمنع منا من أراد الدخول في بلدك ولا من أراد الخروج ولا تمنعنا مرعى نرعاه ولا يأتينا عدو إلا كانت عساكرك أنصارنا ولا يظلمنا ظالم إلا نصرتنا والمواساة منك بالعدل.فأعطاه ذلك وكتب له كتاباً وأرسله إلى عامله وأرسله العامل إلى حارثة وقال لهم: لكم العدل المقام متى شئتم الرحيل متى شئتم، فقال جذع لأصحابه: أعطاكم الله عطفاً تحته حتف، فأعطوه استقامة تعقبها ندامة واحذروا فاني لا آمنه عليكم ! إنما أراد أن يسكنكم حتى تسكنوا، ثم يفاجئكم بغدره كأن قلبه لكم كالمرجل وإني والله ما التقى بصره وبصري حتى رأيت العداوة في نظره وبعد ذلك فإن ظريفة قد وصفت لكم من يقيم بأرض الشام وما تلقون من حروبهم - وإنهم بنو علبة بن عمرو وهم بنو جفنة - فأقيموا وقد وصفت من يلحق بيثرب فإنهم يا حارثة بنوك وبنو بنيك فأطيعوني فما زلت لكم ناصحاً، فقال له حارثة: صدقت يا جذع.فسار حارثة وبنوه الأوس والخزرج للوصف الذي قد كانت ظريفة وصفته لهم، وأقام بنو جفنة ومن أقام معهم من أخوانهم من بني عمرو بن عامر وغيرهم من قبائل الأزد، فدخلوا في نسب بني جفنة - وهم بنو قيس بن جفنة وعمرو ابن جفنة وعامر بن جفنة وجبلة بن جفنة وأولادهم - وتقدم حارثة بن ثعلبة العنقاء إلى يثرب وقدم عمرو بن جفنة على قومه وأخوته وبني عمه بالشام وانصرف حارثة إلى يثرب.

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي