أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)/أخلاق النّديم وصفاته

من موسوعة الأدب العربي
< أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)
مراجعة ١٧:٤٩، ٢ سبتمبر ٢٠٢٢ بواسطة Adab (نقاش | مساهمات) (أخلاق النّديم وصفاته)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى:تصفح، ابحث

أخلاق النّديم وصفاته

أخلاق النّديم وصفاته - أدب الندماء ولطائف الظرفاء (كشاجم)

- وليس أحدٌ من أصحابِ الملوكِ وخُلَطائِهم هو أوْلى باسْتِجْمَاع محاسِنِ الأَخْلاق، وأفاضِلِ الآدابِ، وَطَرَائِفِ المُلَحِ، وغَرائِبِ النتف - من النديم حتّى إِنَّه لَيَحْتَاجُ أن يكونَ فيه أشياءُ مُتَضَادة، فيكون فيه مع سَرْوِ الملوك تواضُعُ العبيد، ومع عَفَافِ النُّسَّاكِ مُجونُ الفُتَّاك، ومع وَقَار الشُّيُوخ مِزَاحُ الأَحْدَاث. وكلُّ واحدةٍ من هذه الخِلال هو مضطرٌ إِليها في حالٍ لا يَحْسُنُ أن يُخلَّ بها فيها، ووقتٌ لا يَسَعُه العُدولُ عنها، والى أن يجتمع لهُ من قُوَّةِ الخَاطر ما يَفْهم به ضميرَ الرَّئيس الذي يُنَادِمه، على حَسَب ما يَبْلُوه من أخلاقِهِ، ويعلم من معاني لَحْظِه وإِشارَتِه ما يُغْنيه عن تَكَلُّفِ عبارته والإفصاح به، فيسبقه إلى شهوته، ويَبْدره إلى إرادته، كما قال بعضُ الكتاب:

وَنَدِيْم حُلْوِ الْحَدِيْثِ يُجَارِيْ

كَ بِمَا تَشْتَهِيْهِ فِي مَيْدَانِكْ

أَلْمَعِيٌّ كَأَنَّ قَلْبَكَ فَي أَضْ

لَاعِهِ أوْ كَلَامَهُ بِلِسَانِكْ

- ومِنْ صفةِ النَّديمِ أن يَجْمعَ إِلى الصَّبرِ على مَضضِ الجُوعِ احْتمَالَ كِظَّةِ الازْدِيادِ عَلَى الشِّبَعِ ؛ لأَنَّه مَدفوعٌ إِلى مُؤْاكلةِ أحدِ رجلين: إِمَّا سَخِيّ شديد الْمَحَبَّة لأَن يُؤْكلَ طعامُه، فيطالبه بالإِكثار، وَمُسَاعَدَته عليه، ومُسَاوَاته فيه، فإِذَا فعلَ ذلك حَظيَ عنده وَقَرُبَ من قَلْبه بالمُشَاكلة، فإن قَصَّر أنزلَ ذلك منه على التَّبخيْل له، وتعَمُّد التَّنْغيصِ عليه، فيكون حَالُه فيه كحَال مُحمدِ بن عبد الملك الزيات، فإِنه قال: أُعِين عَلَيَّ أحْمدُ بنُ أبي دُؤاد بأَشياء لَمْ أُعَنْ عليه بِمِثْلها، حتى إِنَّه أُعِيْنَ عَلَيَّ في تمكُّن حالِه عند الواثق بأَنّه كان طيّبَ الأكل، طَحُونَ الضِّرْسِ، هضُومَ المعدة، وكنتُ على خلاف ذلك فحضرتُه يُؤْاكل الواثق، وليس معهما ثالث، ودعاني الواثق إلى الطَّعام، فأَقبلتُ أنقُرُ على حسبِ عادتي، وخمودِ شهوتي، وهما يتباريان في تكْبير اللُّقم، وجَوْدة الأَكْل، فلمّا رأى أحمدُ ذلك مِنِّي قال: يا أمير المؤمنين.ما جُلوسُ هذا المحتمي معنا يُحصِي علينا اللُّقم ؟ أمَا أكَلَ كما نأكلُ فوفَّانا حقَّ المؤَاكلةِ، ولم يحشِّمْنا، أو نهض، فتفرَّدَ بمؤَاكَلة أمير المؤمنين مَنْ يُحْسِنُ حضورها، ويقابلها يما يُشْبِهها ؟ فقال الواثقُ: قد صدَقَ أحمدُ، فكُل، أو دَعْ، فمَا تمالكتُ أن نهضتُ. أو لئيمٌ طعامُه عنده بمنزِلةِ سَمْعِه وبَصَرِه، فإِنْ أسرعَ فيه أو تَنَاول أطايِبَه، فكأَنّما يأكلُ من جَوَارحهِ، فهو مضطر إلى أنْ يُجاهد نَفْسَه، ويغالبَ طباعَه، حتّى يأْلَف هاتين الحالتين، ويجريَ على هاتين العادتين، فيكون حينئذ أتمَّ في آلات النَّدام، وأقْهرَ لسلطان الشّهوة ممّن يعتمد على تقديم الأَكل في مَنْزله. - ويَتَعلل بمثل ما رأيْنا جماعةٌ من المُتَرسِّمين بالنَّدام يَسْتعملونه من اتخاذِ المخازن مملوءَةً أدْهانا في خِفاف غِلْمانهم، أو اللفات مُدْرَجة في المناديل إِذا أمكنهم ذلك، فإِذا مَضَّهم الجوعُ، وشَحَذهم الشَّرابُ تَغَنَّموا الغَفْلة وانتهزُوا الفُرْصةَ، فتناولُوا مَا أعدُّوا من ذلك في الخَلَوات. - وربما كان في المذاهب وما أشبهها من المواضع الخسيسة، وكلَّ ذلك قبيحٌ جداً. - وفيه أشياءُ مذمومة: منها: أنه لا يُؤْمن أن يطلع عليها بعضُ حاشية المُنَادم فينهيها إِليه فيوغِر بقلبه، ويُحْفظه، ويُرى أنه في ذلك الفعل قد هجاه وبخَّله، لأَنه ليس كلُّ ذي خُلق دنيء يعترف به من نفسه، بل كثيرٌ من ذوي العيوب يَعْمي عن عيوبه، أو يتعذر الموْضِع الذي يُؤخذ مثل ذلك فيه فينال جسمُه من الضرر بمفارقة العادة، وفَقْدِ النَّفْس شيئاً قد تطلَّعت إِليه، وتشوَّفَتْ له إِمَّا بعلَّةٍ أو مرض، أو يُحلِّفه رئيسُه، ويُقسم عليه ألاَّ يأْكل إِلاّ معه، فيَضْمن له ذلك، ويعده به ثمّ يخالف فيكون قد خان ونَكثَ. - وكانَ عيسى بنُ جَعفر الهاشِمي يفعلُ هذا مع الرَّشيد كثيراً، وكان الرَّشيد يثلبه.عليه ويذمُّه، ويبَكِّته به، فمِنْ ذلك أنّه قال له في بعضِ العَشِيَّات ولجماعةٍ من جلسائه: قد اشْتهيتُ أنْ آكل في صُبْحه غدٍ هَرِيسةً، وقد تَقدَّمتُ باتخاذها، ولا يخلط بها غيرها، فاعمَلوا على البكورِ، وأجِمُّوا أنْفُسَكم الشَّهوة، ووفِّروها على الهريسة، وكان بعضُهم مُلازماً لعِيسى خصِّيصاً به، فحكَى أنَّه غَلس إِلى منزلهِ، ولم يكُن يُحْجبُ عنه، فَأَلْفَى عيسى جالساً بين يديه بقيةُ شمعة وطبقٌ كبير عليه طيوريتان عظيمتان: إِحداهما مملوءَة هريسةً، وفي الأُخرى ثلاث غضارات فيهن مُرِّي ودارصيني وفلفل ورقاق لطاف لا تَفْضُل عن الكَفِّ، وهو يأَخذُ الرقاقة فيملؤُها، ثم يُمِرُّها على تلك الغضارات، ويَزْدَرِدُهَا، قال: فقلتُ: يا سبحان الله ! أنَسِيْتَ ما اتَّفقتَ عليه مع أمير المؤمنين ؟ فقالَ: لا تعجبْ، فهذه الطيفورية الثّالثة، فأَمسكتُ يده، وجذبتُ الطبق، وجَبَرتُه على غَسْلِهَا، ورَكِبنَا، فوافَيْنَا أميرَ المؤمنين جالساً على حصيرِ الصّلاة حين انْفَتَل من صلاته، وهو يَسْتَتمُّ تَسْبِيحَه، ورَوائحُ الهريسةِ قد مَلَأتِ الدَّار، فقال: أبْطَأْتُمَا، ودعا بالطَّعام، فأُحضِر، فاندفع عيسى يأْكلُ كأَنه لم يذقْ شيئاً منذ أيام، فلم أتَمالكْ أنْ ضحكتُ، فقال الرَّشيد: ما هذا ؟ قلتُ: لأَصدقَنَّ أميرَ المُؤمنين عن خبرِ عيسى، قالَ: إِيه، قلتُ: كان من أمره كَيْتَ وكَيْتَ، قال: أترني شككتُ في أنه يَفعلها ؟ إِعلم أنه لو لم يفعلْها لأضكلني وأكلك. - فأَمَّا العبثُ والمُزَاحُ فله من المُنَادمِ موقعٌ لطيفٌ ومحلٌّ خصيص إذا تَبَيَّنَ النديمُ منه نشاطاً لذلك. - وقال قائلٌ للمأْمون: أيأَذنُ أميرُ المؤمنين في المُدَاعِبةِ ؟ قال: وهل العَيْشُ إِلا فيها ؟ !- وقَدِم العَتَّابِي عليه، وعنده إِسْحاقُ بنُ المَوْصِلي، فسلَّم وَرَدَّ عليه، وجَلَسَ، وأقْبلَ يسأَله عن حاله، ويُجيبُه بلسانٍ ذَلْقٍ فاستظرفه، وأخذ معه في مُداَعبته، فَظَنَّ الشيخُ أنه قد استَخَفَّ به، فقال: يا أميرَ المؤمنين، الإِيْنَاسُ قَبْل الْإِبساسِ، ثمَّ أخذُوا في المُفاوَضَةِ والحديث. وأغْرَى المأْمونُ إِسْحَاقَ بِالْعَبثِ بالعَتَّابِي، فأقبل يُعَارِضُه في كلِّ ما يَذكرهُ، ويَزيدُ عليه، فعَجبَ منهُ، ثمَّ قال: أيأْذنُ أميرُ المؤمنين في مَسْأَلةِ هذا الإِنسان عَن اسْمِه ونسبِه ؟ قال: افْعَلْ، فقال له العَتَّابي: مِمَّن أنت ؟ وَمَا اسْمُك ؟ قال: أنا من النَّاس، واسمي كُلْ بَصَلْ منَ الأَسماء ؟ قال إِسحاق: مَا أقَلَّ إِنْصَافك ! وَمَا كُلثُوم من الأَسماء ؟.البصلُ أطْيبُ من الثَّوم، فقال العَتَّابِي: لله دَرُّك، مَا أرْجَحَك ! ما رأيتُ يا أمير المؤمنين كالرَّجل قطّ، أفيأَذنُ لي في صلته بما يوصِل بهِ أمير المؤمنين ؟، فقد والله غلبَنِي، فقال المأْمونُ: بل هو مُوفَّر عليك، ونَأْمرُ له بمثله، ونَهَضَا، فانصرف إِسحاق بالعَتَّابي إِلى منزله، ونادَمَه بقيَّةَ يَوْمِه. - ومِمَّا يَزيدُه في المَحَلِّ تَقَدُّماً، وعند مَلِكه ورئيسِه تعظيماً وتَمَكُّناً أن يكون عالماً بكل ما يَتَنافَسُ فيه: الملوكُ، ويُغَالون فيه من الرَّقيق الثَّمين، والجَوْهَر النَّفيس، والآلات المحكمة، وأنواع الطَّيبِ والفُرُش، إِلى غير ذلكَ من الخَيْل والسِّلاحِ، وسَائِر مَا يُهْدَى مِثلُه إِلى المُلُوك في مَجَالسِ لَذَّاتِهم، وتُعرضُ عليهم أوقات نَشاطِهم. - فَمَنْ أبْرَدُ من النَّديم مجلساً، وأكسَفُ منه بالاً إِذا عُرضَ على المَلكِ شيءٌ من هذه الأَعْلاقِ فاعْتمدَ فيها على معرفته، واستعانَ على تَخَيُّرها ببصرِه ورَجَعَ في استفادِتهَا إِلى نظرِهِ وتلقيه فلم يُحِرْ جواباً في ذلك، ولم يُحِطْ بشيءٍ منه علماً. - ويُستطرفُ منهُ أن يَصفَ اللَّونَ الغريبِ من الطَّبيْخِ، والصوتَ البديعَ، والشِّعرَ الشَّجيَّ، واللَّحنَ من الغناءِ. - ورأيْتُ المِلاحَ من أهلِ هذه الطَّبقةِ يقولون: إِنَّ من لم يشْدُ عَشْرةَ أصواتٍ، ويُحكم من غرائبِ الطبيخ عشرةَ ألوان لم يكن عندهم ظريفاً كاملاً، ولا نديماً جامعاً. - ولفتىً من الكُتَّابِ في هذا المعنى

تَعَالَوْا إِلَى الْخِلِّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ بِكُمْ

يَطُولُ عَلَى الزَّمَانِ تِيْهاً وَيَشْمَخُ

فَقَدْ حَصَلَتْ عِنْدِي لكُمْ فَتَعَجَّلُوا

ثَلَاثُ دَجَاجَاتٍ سِمَانٍ وَأفْرُخُ

وَرَاحٌ وَرَيْحَانٌ وَمِسْكٌ وَعَنْبَرٌ

نُبَخَّرُ أَحْيَاناً بِهِ وَنُضَمّخُ

وَمُسْمِعَةٌ كَالْبَدْرِ تَشْدُو بِصَارِخٍ

تَهَاوَى الْقُلُوبُ نَْحَوهُ حِيْنَ يَصْرُخُ

وَهَاأنَذَا طَبَّاخُكُمْ وَلَرُبَّمَا

رَأيْتُ ظَرِيْفَ الْقَوْمِ يَشْدُو وَيَطْبُخُ

سِوَى أنَّهُ لَا تَقْطَعُ الَّلحْمَ كَفُّهُ

وَلَا هُوَ إِنْ لَمْ تُوقَدِ النَّارُ يَنْفُخُ

وَإِنِّي لَأَسْتَخْذِي لأَهْلِ مَوَدَّتِي

وِأُزْهَى عَلَى أهْلِ الْمَعَالِي وَأَبْذُخُ

- وَلَا يستحقُّ النَّديمُ هذا الاسمَ حتّى يكونَ لهُ جمالٌ ومروءة، أمَّا جَمالُه فنظافَةُ ثَوْبِهِ، وطيبُ رائحته، وفَصَاحةُ لسانه، وأمَّا مروءتُه فكثْرَةُ حَيَائِه في انبساطٍ إلى جَميل، ووقارُ مَجْلسِهِ مع طلاقَةِ وَجْهِهِ في غير سخفٍ، ولا يَسْتكملُ المروءةَ حتّى يَسْلُو عن اللِّذةِ. - وقيل للعَتَّابِي: ما المروءةُ.قال: تَرْكُ اللَّذَّةِ، قيل له: فما اللَّذَّةُ ؟ قال: تَرْكُ المرُوءةِ. ^

باب

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي